نظرا لانشغالي بأولويات حياتي، ورغبتي في التفرغ للأهم منها، فإني أعتذر عن الاستمرار في الكتابة في المدونة، شاكرة كل من ساهم وشارك وقرأ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاثنين

الثقافة وأثرها على الشخصية - ج2

الدين الإسلامي وبناء الشخصية:
وبعد أن عرفنا كيف تتكون شخصية الإنسان، فلنأت إلى ديننا الإسلامي، دين
الكمال، ولننظر كيف أمرنا بالتعامل مع قلوبنا، وعقولنا لتتكون أفكارنا
ومشاعرنا، وتستقيم أفعالنا، فهو ما ترك أمر تكوين شخصياتنا إلى أهوائنا.

أما العقل: فقد أمرنا الله تعالى أن يكون استخدامنا للعقل موجها للتعرف
عليه، والوصول إليه، والزهد فيما سواه، فمن وجه عقله لغير ذلك لم ينفعه
علمه، والآيات التي أمرنا بها في التفكر كثيرة: (أفلا تعقلون..أفلا
تتفكرون.. لقوم يعقلون.. لقوم يتفكرون....)

وإنما أمرنا الله تعالى أن نتوصل إليه بعقولنا، لا بمشاعرنا؛ لأن العقل
إذا توصل لحكم يقيني، فلا يمكنه أن يبطله، مهما انشغل عنه وغفل، و مهما
هجره، ما لم يصل لحد النسيان، ويحتاج فيه لعلم جديد، وأما القلب، فهو
دائم التقلب، متجدد المشاعر، لا يكاد يستقر الشعور فيه وإلا ويخلفه شعور
غيره.

ولكون العقل محل الأحكام، اعتمد عليه في الإيمان، وصنف أسلافنا من أهل
السنة والجماعة، (الأشاعرة، والماتريدية) - رضوان الله عليهم- كتبهم في
علم العقائد بناء على الأحكام العقلية، التي يتوصل الإنسان من فهمها إلى
درجات اليقين، فيبني إيمانه وأفكاره على بصيرة وأساس ثابت، لا يختل، ولا
يتغير.

وثقة الإنسان بأفكاره، تعطيه الثقة بأفعاله، فيمضي واثقا مطمئنا أنه على
الحق، { وحآجه قومه، قال: أتحجوني في الله وقد هدان؟! ولا أخاف ما تشركون
به إلا أن يشاء ربي شيئاوسع ربي كل شيء علما، أفلا تتذكرون؟! وكيف أخاف
ما أشركتم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطنا، فأي
الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟! الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمنهم
بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} الأنعام: ٨٠ – ٨٢ { قل هذه سبيلي
أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} يوسف: ١٠٨

فمن فسد اعتقاده، فسدت أفعاله، ومن استقام اعتقاده استقامت أفعاله، وبقدر
ثبات الاعتقاد، وحضوره بالذهن في كل لحظة تكون الأفعال موافقة له، وبقدر
تزعزعه، والغفلة عنه تكون الأفعال مخالفة له، ومن هنا نعرف ما معنى درجة
الإحسان، وهي أن تعبد الله كأنك تراه، تراه بعظمته، وقدرته، وعلمه بك؛
لأنك مستحضر لاعتقادك في كل لحظة من لحظات وجودك، وأما الغافل عنه، الذي
يشغل نفسه بغيره، فإنه ما يزال يبتعد عن الله تعالى بمعاصيه حتى يرين على
قلبه، ثم يحول الله بينه وبين عقله فيضل بعد هدى كان عليه، وبذلك قال
الله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في
طغينهم يعمهون} الأنعام: ١١٠.

وما دمنا قد قدمنا أن العقل لا يفكر إلا بإرادة القلب، كان لزاما أن يكون
لهذا القلب قيود حتى لا يخالف العقل، ولذا فإن ديننا لم يتركه حرا طليقا،
يخوض في بحار المشاعر كيف شاء، فيتعارض مع العقل، ويتصارع معه، بل شرط
عليه شروطا، في الحب والكره، لا بد له منها ليحقق عبوديته.

قال الله تعالى: {قل إن كان أبآؤكم، وأبنآؤكم، وإخونكم، وأزوجكم،
وعشيرتكم، وأمول اقترفتموها، وتجرة تخشون كسادها، ومسكن ترضونها، أحب
إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله
لا يهدي القوم الفاسقين} و التوبة: ٢٤ فسمى من فضل حب شيء على حب الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم فاسقا.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا
لما جئت به)، (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، ونفسه،
والناس أجمعين)، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، (ثلاث من
كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن
يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى
في النار)، (المرء مع من أحب يوم القيامة).

وهكذا ألزمنا الله تعالى بالتحكم في قلوبنا، ومشاعرنا، فما خالف منها ما
جاء به الشرع وجب علينا أن نبغضه، وما وافقه أحببناه.

ما أمرنا بذلك إلا لتنساق أفعالنا لهذا الدين، بعد أن تمتلئ قلوبنا منه،
فيوافق العقل، القلب، ثم تستقيم الأفعال.

فما كمال الإيمان إلا بتوافقهما: (الآن ياعمر).

ويتساءل الإنسان بعد هذا: كيف لي أن أتحكم في هذا القلب، الصبي الذي لا
يكبر، الطائش الذي لا يعقل؟!

فيجيبنا القرآن: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون
وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا
قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه وكان أمره فرطا} الكهف: ٢٨

إذن هي الحواس، العين عندما تعدو للباطل، تملأ القلب منه، فكيف تستقيم
أفعال من ادعى الإيمان، ثم ملأ قلبه بمحبة أهل الكفر والضلال؟!

أو يرضى عنهم، والرضا بالفسق فسق، وبالكفر كفر؟!

أم يجالسهم ويدعي أن معرفته للحق تقيه من التأثر بهم؟!

أو نسي قول الله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول
مرة، ونذرهم في طغينهم يعمهون} الأنعام: ١١٠، وذاك من جراء ما اكتسبوا من
سيئات.

ونهينا عن سماع الباطل: الغيبة، وإن لم نغتب بألسنتنا، لكنها الأذان،
ستنقل إلى القلب ما سمعت فيمتلئ القلب به، الكلام عن الفواحش، عن انتشار
المنكرات، عن أحاديث أهل الباطل، عن الدنيا وما فيها من المغريات، كل هذا
سيؤثر على القلب، {وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم آيت الله يكفر
بها، ويستزأ بها، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا
مثلهم، إن الله جامع المنفقين، والكفرين في جهنم جميعا} النساء: ١٤٠

و قد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: {والذين هم عن اللغو معرضون} المؤمنون: ٣

اشتكى أناس الدنيا بحضرة رابعة العدوية -رضي الله عنها- ، فقالت لهم: لو
لم تكن في قلوبكم لما ذكرتموها.

فلنُصَبّر حواسنا على الحق، حتى يستسيغه القلب، ويرسخ فيه.

فالنظر إلى الكعبة، إلى المصحف، إلى العلماء، إلى العباد، عبادة يثاب
عليها الإنسان؛ لأنه بها سيملأ قلبه بالحق المتمثل أمام عينيه.

ولتعويد النفس، والتحكم في القلب كلام كثير ليس هذا محله، وإنما ذكرت ما
ذكرت استطرادا.

يتبع

ليست هناك تعليقات: