نظرا لانشغالي بأولويات حياتي، ورغبتي في التفرغ للأهم منها، فإني أعتذر عن الاستمرار في الكتابة في المدونة، شاكرة كل من ساهم وشارك وقرأ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الثلاثاء

في التسليم سر عجيب


أهديكم هذه المقالة للأخت أم المثنى، سعاد والولايتي حفظها الله:        
 
إن التسليم والتفويض هو أحد العبادات القلبية المهمة التي يغفل عنها الكثير من الناس، أو أنها قد تلتبس عليهم في أحيان كثيرة، خصوصا في هذا الزمان الصعب الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، والتبست الموازيين وندر وجود القدوات.
لذا صعب على الكثيرين التفريق بين التوكل والتواكل، ففرق كبير بين أن نأخذ بالأسباب وبين ان نعتمد عليها قلبيا، فإن كان اللسان ينكر اعتماده القلبي ويؤكد اعتماده على الله تعالى وحده، فإن واقع الحال يبيّن الاعتماد القلبي على الأسباب بلا جدال.
     دعونا في البداية نعرّف التوكل فنقول إنه عبارة عن: "سكون القلب تحت مجاري الأقدار" ويعرّفه الإمام القشيري بقوله: "واعلم أن التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب بعدما تحقق العبد أن التقدير من قِبَل الله تعالى، فإن تعثّر شئ فبتقديره، وإن اتفق شئ فبتيسيره"..
التوكل يعني ألا نقلق لمرض أو صحة، لفقر أو غنى، لشباب أو شيخوخة..ألا نقلق لأي شئ!
بالطبع قد يسأل سائل: "ولكن من الطبيعي أن يقلق الإنسان لمشاكل وظروف صعبة تواجهه في حياته، فهذه طبيعته التي خلقه الله تعالى عليها؟!"
بل لشدة بعدنا عن مفهوم التوكل اليوم نجد البعض يعترض عليه ويسفهه!!
والجواب على ذلك أن القلق هو فعلا من طبيعة ذلك الإنسان الذي خلقه الله تعالى ضعيفا يقلق لأقل شئ، لكنّ الله تعالى يطلب منه في الوقت نفسه أن يجاهد للتخلص من هذه الطبيعة التي جُبِل عليها، مثله في ذلك مثل سائر صفاته الذميمة التي جبله عليها، مثل حب الدنيا وغيرها، وأمره في ذات الوقت بمجاهدتها والتخلص منها.
 
ولا شك أن كل إنسان يتمنى فعلا لو تخلص من قلقه وظل ساكنا مطمئنا حتى في أحلك الظروف ولكن كيف السبيل الى ذلك؟؟
     في الواقع إن الوصول لهذا المقام العالي يتطلب تدريبا قلبيا مستمرا تنفر منه النفس التي جُبلت على حب الراحة والكسل، كما أن هذا المخلوق البشري الضعيف جدا يذهلك حين يتكبر ويتجبر ويتباهي بثقته بنفسه ومقدرته التي يدعيها رغم علمه بمقدار ضعفه، وأبسط مثال على ذلك ما يصدر عنه حين يواجه مشكلة ما، فتراه يفكر مباشرة في كيفية حلها اعتمادا منه على ذكائه وقدراته.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "وهل نترك مشاكلنا دون حل؟ ألسنا مأمورين بإتخاذ الأسباب؟"
والجواب: بلى، ولكن إلى حد ما، فالفرق بين المتوكل وغيرالمتوكل أن الأول حينما تواجهه المشكلة يراها اختبارا من الله عز وجل أولا، فيتخذ الأسباب ظاهريا فقط بينما قلبه قد سلّم الأمر لله تعالى ورضى بقضائه. أما غير المتوكل، أو الذي يدعي التوكل باللسان فقط، فإن القلق يستولي عليه، وأول ما يخطر بباله هو كيفية توظيف ذكاءه وفطنته أو ربما مبقدرة من قد يستغيث به في حل المشكلة، فهو لا شعوريا ينظر في تلك اللحظة لعقله وقدراته فقط، متوهما أنه هو القادر على حل المشكلة فيجرب حلا وآخر دون جدوى، وكلما زاد في التفكير بحلول جديدة وتنفيذها كلما تعقدت المشكلة أكثر وأكثر، فيكون حاله أشبه بحال الريح التي خسرت تحديها للشمس في القصة الرمزية القديمة، فإن إحدى السنن الكونية أنه كلما زادت مقاومتك للشئ كلما قاومك أكثر، ودعونا نوضح الأمر بالعديد من الأمثلة التي نراها من حولنا، ولعل أشدها وضوحا قضايا التربية، فالأم على سبيل المثال تصر على أن ينصاع الابناء لرغباتها وأوامرها، لكنها تفاجأ بمقاومة شديدة من الأبناء الذين يرغبون في إثبات ذواتهم واستقلاليتهم، والنتيجة أن تسوء العلاقة بين الطرفين، وربما زاد الابن في عصيانه وتمرده أكثر!
 لذا أنصح الام التي تنزعج مثلا من الصرعات الغريبة في لباس ابنها أو قًصّة شعره أن تكتفي بنصحه في البداية فقط، ثم تلوذ بالصمت بعد ذلك وتفوض أمرها لله تعالى.. أي أن تنظر للأمر على أنه اختبار من الله تعالى لها..لتعويدها الصبر والرضا والتفويض،وسوف تجد أنه سيعود لرشده في النهاية، وسيقلع عما هو فيه، بينما لو صرخت وعاقبت للجأ هو الآخر لوسيلة عقاب غير مباشرة، كأن يتهاون في أداء واجباته الدينية مثلا، أو أن يهمل في دروسه لعلمه بأن في ذلك إغاظة لها.
 
شكت لي إحدى الأمهات مرة صدمتها حين اكتشفت بأن ابنها ذي الثمانية عشر عاما يدخن، وبالطبع فإنها لم تتردد في نصحه وبيان عدم رضاها عن الأمر، وطلبت من أخيه وأبيه أن ينصحاه كذلك، بل إنها لم تتردد بأخذه لاحدى عيادات مكافحة التدخين ليسمع من الطبيب مساوئ التدخين، إلا أن ولع ابنها وادمانه للتدخين زاد، وساءت العلاقة بينهما إلى حد كبير، ومع ذلك استمرت الأم في تجربة حلول جديدة على مدى أعوام، وازداد الابن في إدمانه وإعراضه عنها حتى سقطت صريعة المرض! لم تفطن الام أنها كانت بمقاومتها الشديدة تعترض لا شعوريا- وهي المرأة المتدينة -على ابتلاء الله تعالى لها، وقدره الذي يريد أن يختبرها فيه.. يريد أن يرى مدى صبرها ورضاها بقضائه..
كان الاولى بها أن تتمثل قصة ذلك العبد  الذي اشتراه أحد الأمراء وحين أخذه لبيته سأله ماذا تريد ان أطعمك؟ فأجاب: ما تشاء يا سيدي.. فأنت السيد وأنا العبد، فسأله الأمير: وأين تريد ان تنام فقال: في أي مكان يا سيدي فأنت السيد وأنا عبدك، فسأله الامير: وماذا تريد أن أكسيك؟ فقال: ما تشاء يا سيدي فأنت السيد وأنا عبدك . وهنا أطرق الأمير برهة ثم تنهد وقال: آه لو أننا جميعا نستشعر مثل هذه العبودية مع الله تعالى الذي خلقنا ويتولى أمرنا!
حريّ بنا جميعا أن نكون مثل ذلك العبد.
    
الكثير من مشاكلنا تحل بالتفويض والتسليم التي هي أعلى مراتب التوكل، لكننا بغرورنا نصر على الاعتماد على ذكائنا في حلها..أي أننا بكل غباء وسوء أدب نضع أنفسنا في مقام الاعتراض على مشيئة الله تعالى، وكأننا ننازعه الأمر في كونه وخلقه، ذلك باختصار ما نفعله دون أن نشعر، فالنفس الأمارة بالسوء نزّاعة لأن تضع نفسها في موضع المدبّر لكل شؤونها محاولةً الوصول لما تريد من أهداف ونتائج، ولذا لا تصفو لها عبادة، ولا يهنأ لها عيش، جاهلةً أن فعل العبد لا يؤثّر في قضاء الرب، وقمة الأدب مع الله أن نرضى بقضائه، وأن نصبر على بلائه، وأن نشكره عل نعمائه، وقد دأب أحد مشايخنا على القول بأنه "ما من شدة إلا ويتخللها ألطاف لكن الغافل قلما يلاحظ ذلك" فعند وقوع البلاء يغلب على الإنسان طبيعته  الجزعة السريعة الضجر الكثيرة الشكوى، ولو صبر ورضيَ لوجد فيما قدّر عليه خيرا كثيرا.
وكم من دعاء لم يستجب الله تعالى له في حينه، ثم وجدنا في عدم إجابته خيرا كثيرا بعد ذلك!
لو فوضنا أمورنا لله تعالى لارتحنا كثيرا، لكن فطرتنا على حب التدبير تقف عائقا في طريقنا، والأمر يحتاج منا لمجاهدة كبيرة ودائمة.
فيما يلي بعض الخطوات العملية التي تعينك على التدرب على التوكل، ولن أقول التفويض الذي هو مرتبة أعلى من التوكل تتحقق بعد اتقاننا للتوكل:
1- عوّد نفسك الصبر وعدم الشكوى قدر الإمكان فيما يواجهك من ابتلاءات وظروف صعبة، فالصبر الجميل الذي ورد في الآية الكريمة "واصبر صبرا جميلا" هو الصبر الذي لا شكوى فيه، وكلما شكوت كلما جلبت إلى نفسك المزيد من الطاقة السلبية، وكلما ازدادت أمورك سوءا، وفي ذلك يقول الشيخ معروف الكرخي رحمه الله تعالى:"شفاء كل بلاء نزل بالعبد كتمانه، فإن الناس لا ينفعونه ولا يضرون". كما أن اعتياد الشكوى يصبح عادة متأصلة يصعب الخلاص منها مع مرور الأيام، وكلما شكوت كلما جدّدت المشاعر السلبية التي كدت تتجاوزها، كما أن الناس ستملّك لكثرة شكواك.            

2- قد تضطر أحيانا للشكوى بنيّة الاستئناس بالرأي، وأن يزودك الطرف الآخر بجرعة من الصبر، أنت في حاجة لها، وهذا لا يدخل ضمن الشكوى المذمومة كما بيّن الفقهاء، لكن احرص على أن تشكو لأقل عدد من الناس، وأن يكونوا من أهل الحكمة والإصلاح وكتم الأسرار، وأن تكون شكواك ضمن الحيّز المطلوب فقط، لا اكثر.

3- إبدأ بالتدرب على التوكل في المواقف البسيطة اليومية التي تمر بها، وذلك بألا تشغل نفسك بالتفكير بالأمر الذي حصل، وكلما تذكرته اطرده من ذهنك فورا وحاول تناسيه، وعدم التحدث عنه، كما لو كان التزاما ماليا ينبغي عليك دفعه بعد أسبوع مثلا، وأنت لا تملك المال المطلوب وقد بذلت ما بيدك من جهد... قل لنفسك: "لن أفكر في الأمر، وسيأتي الفرج من الله".. حاول قدر الإمكان تجاهل مشاعر القلق التي قد تستحوذ عليك، واشغل نفسك بأي أمر طيب، وحبذا أمر يدخل السرور على الآخرين، كتقديم المساعدة لهم.

4- اذا وجدت نفسك محتارا بخصوص اتخاذ قرار ما، ولو كان بسيطا، مثل: هل أذهب غدا للسوق أولا أو لزيارة فلان؟ لا تشغل نفسك بالتفكير بالأمر واترك اتخاذ القرارحتى لحظة خروجك من المنزل، وقل لنفسك: سنرى ما الذي سيقسمه لنا الله تعالى.

5- عند اتخاذك للأسباب ذكّر نفسك أنها مجرد أمر شكلي أمرت به، وليس لها في الحقيقة أي تأثير.

 
6- درّب نفسك على عدم النظر للأسباب في بعض الأمور البسيطة، كعدم إقفال أبواب سيارتك بالمفتاح في الأماكن العامة، بعد إخلائها من المقتنيات الثمينة، وليس في هذا دعوة لترك الأسباب، وإنما لتقليل سطوة الأسباب على القلب.
 

7- بداية التدرب على التوكل ستكون صعبة، فالنفس لن تتقبل الوضع الجديد الذي لم تعتده، والذي ترى فيه خطرا عليها، ومن ثم ستثور عليك، وستحاول ثنيك عن عزمك. والناس كذلك ستحبط من همتك وستدفعك دفعا تجاه القلق، ولكن: ألن يكفيك أن يكون الله تعالى معك؟ أليس الله بكاف عبده!

8- وأخيرا، وكما هو الحال مع كل طبع حميد نحاول التحلي به، ستكون هناك انتكاسات، وفترات ركود وفتور،فلا تيأس وواصل المسير.. واصل الصعود، والارتقاء بنفسك..وكان الله في عونك.
     
                 
    فوّض الأمر إلينا       نحن أولى بك منك

 
كن عن همومك معرضاً
وكِل الأمورَ إلى القضاء
أبشِر بخيرٍ عاجل
تنسى به ما قد مضى
فلرُبَّ أمرٍ مسخطٍ
لك في عواقبه رضا
 لربما اتسع المضيقُ
وربما ضاق الفضا
الله يفعل ما يشاء
فلا تكن متعرّضا
الله عوّدك الجميل
فَقِس على ما قد مضى
 
(صفي الدين الحلي)



 

ليست هناك تعليقات: