اليوم حضرت درسا في تفسير سورة الأنفال. بدأ الحديث في تفسير قوله تعالى {وإذ يغشيكم النعاس أمنة منه}فاستشعرت نعمة النوم، وكيف منَ الله تعالى بذلك النعاس على الصحابة يوم بدر، ليربط به على قلوبهم، ويسكن نفوسهم من قلقها.
ثم علقت إحدى الأخوات عن تقرير قالت فيه أن أحد العلماء كان في يجلس في غرف الإنعاش يراقب الذبذبات الجسدية للمرضى، فلاحظ أن المريض إذا مات توقفت ذبذباته الجسدية. ولاحظ ان الأمر نفسه بالنسبة للنائم، ولكنه ما إن يفيق النائم حتى ترجع تلك الذبذبات للعمل من جديد. فلما ذكر له قوله تعالى :{الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها} دهش منها واستغرب.
فقلت في نفسي: ما ألطف ربي. يمن الله تعالى علينا بنعمة النعاس الذي يغشى النفس قبل النوم، فتهدأ به وتسكن من قلقها وصخب نهارها وزحمته، فيسكن الجسد، وتتوقف ذبذباته ونشاطه، وتبدأ الروح في انطلاقها، بعد أن كانت محبوسة طيلة النهار بذلك الجسد وأنانيته.
وكلما كان انشغال الإنسان بالجسد أكثر، نجده بحاجة أكثر للنوم. ذلك لأن روحه تئن من ثقل الجسد ومن طول الحبس... بينما كثيرا ما قرأنا عن الصحابة والصالحين والعلماء كيف أن الواحد منهم كان لا ينام، وربما يغفو وهو جالس ثم يقوم وهو منتش نشط، فنظن في أنفسنا أن ذلك أنما هو من قبيل مبالغات التاريخ .. لكن من تأمل في حقيقة النوم وعلاقته بالروح والجسد اتضحت له الصورة. فمن كان جل نهاره مسخرا في خدمة الروح، ولو على حساب الجسد، فما حاجة روحه لنوم الجسد؟ فروحه حرة، طليقة، أميرة حتى اثناء يقظته !! هي روح تشبعت عناية ورعاية، فسمت بصاحبها فوق المادة وحاجاتها، ورفعته إلى ملكوت الجنة الدنيوية التي لو عرفها الملوك لقاتلوه عليها.
ثم ذكرت معلمتنا نقطة أخرى في النوم، رمت بي إلى عالم آخر من التأمل في النوم وفلسفته.
قالت: "إن الجسد يحوي طاقة، وهذه الطاقة هي التي يستخدمها في حركاته ونشاطه اليومي، كما يحرق الكثير منها في التفكير والقلق والنشاط الذهني. وطالما هو مستيقظ فإن أجزاء من هذه الطاقة تتبدد لا محالة، إن كثرت أو قلت. فتأتي نعمة النوم لذلك الجسد، ففي النوم يقوم الجسد بالعملية العكسية، وهي أنه يحتفظ بالطاقة في الداخل، ويخزنها، حتى أننا نجد من كان عنده فائض من الطاقة في جسده فإن جسده يتعرق في نومه ليتخلص من ذلك الفائض منها!
الله تعالى لما انعم على الصحابة بذلك النعاس ليلة بدر، فقد حفظ لهم طاقتهم بلطفه. حفظها من أن تتبدد طوال الليل في القلق والخوف والترقب. فقاموا من نومهم بكامل طاقاتهم، مستعدون كأفضل ما يكون الاستعداد البشري. ثم أنزل عليهم الأمطار ليطهر أجسامهم وينعشها، ويطهر أرواحهم من رجس الشيطان ووساوسه، وليثبت به الأقدام.
على روعة هذا الكلام بحد ذاته، إلا أني لم أتمالك ذهني وبدأت بالتأمل.. فقلت في نفسي: "إذا كان للجسد طاقة، وببذل الجهد تبدد هذه الطاقة، فينقص مخزون مصدرها، فهي بهذا النقص، إما أن يشعر صاحبها بالراحة، وذلك إن كانت تلك الطاقة سلبية وقد تخلص منها، أو كانت إيجابية من النوع الذي يرتاح ببذله.
وإما أن ذلك الفقد سوف يوهن صاحبه، وذلك إن كان بحاجة لتلك الطاقة في عمل آت. ففي هذه الحالة سوف يؤثر النقص حتما في إنتاجيته ما لم يسعف صاحبه نفسه بالتجديد وإعادة التخزين..
ثم قلت: إذا كان هذا حال الجسد، فلا بد أن للذهن كذلك طاقة مثل تلك الطاقة التي في الجسد. وتلك الطاقة الذهنية تتبدد عند التحدث وإخراج ما في النفس أو التعبير عما في الذهن. وهي إذاتبددت، فإما أن توفر لصاحبها الراحة بحصول التنفيس وخروج ما في الذهن من طاقة فائضة، وفي نفس الوقت ينتفع من حوله بتلك الطاقة. وإما أنها إذا تبددت أوهنت صاحبها، واستنفذت من عزيمته، وذلك إن كان ذهنه بحاجة إلى تلك الطاقة المتسربة. فتذكرت بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعتها في سياق هذه الفكرة.
تأملوا معي قوله صلى الله عليه وسلم:(استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)
كم منا حصل له ان تحدث وأفصح عن خطط أو نوايا في نفسه وأسهب في الحديث عنها، ثم وجد أن عزيمته مع الوقت قد خارت، ونشاطه في اتجاه ما كان يصبو إليه قل؟ حتى أن الكثير منا في نفسه أحيانا يتجنب الحديث عن مشروع في ذهنه خشية أن يفقده لكثرة تجاربنا في ذلك. قد لا نعلم سر ما نشهده، وقد نؤوله بحسد النفس.. لكن لما لا يكون تفسير ذلك أنها طاقة تبددت فأوهنت العزم؟ فتكون نصيحته صلى الله عليه وسلم من قبيل حفظ الطاقة للقيام بالحاجة؟
ثم في المقابل لنتأمل أحاديث الرسول الكثيرة التي تحثنا على بذل العلم، وأن من يبذله يزيده الله منه، فتلك تكون الطاقة الإيجابية الفائضة، تتجدد في صاحبها إذا بذلها، فيا له من خالق كريم لطيف خبير.
عرضت هذا التأمل على زميلتي في المدونة "زبيدة" فأضافت التعليق التالي:
"إذا كانت هناك كلمات توهن الطاقة الذهنية، واخرى تعززها وتنميها، فلا بد ان للصمت في حد ذاته قوة مهولة ندرك بعد عمق تأثيره!!."
فأجبت:
لعلنا ندرك قوة الصمت الكامنة إذا تأملنا في قوله تعالى:{فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا.}..هي عبادة "الصوم عن الكلام". كانت عبادة الأمم من قبلنا، أمر الله بها مريم للأمن من خوفها، وأمر بها سيدنا زكريا عليه السلام شكرا لنعمة الولد... الصمت للأمن، والشكر... أين السر؟
هناك تعليقان (2):
عندما تكون الأمور مرتبطه بتعليم بشر فإن خير الوسائل لذلك هو الصمت ففيه من العظات و العبر ما يغني عن الكلام ولأن عقل البشر محدود ففي أمور مثل قصة مريم العذراء و سيدنا زكريا يقف العقل عند حدها فتأتي الحكمة الإلاهية بالأمر بالصمت و فيه جل التفكر بحكمة الأمر و الله أعلم
وصلني من الأخت "نعيمة" التعليق التالي:
«هل يعني أن كل أمر مهول يحدث لنا ونخاف إذاعته على الملأ نستخدم الصمت فيه؟ وهل كل نعمة مفاجئة نستخدم الشكر عليها بالصمت؟
وهذا يعني أن الصمت هو علاج للخوف الذي يعتري الشخص عندما يتهدد أمنه؟ وأن الصمت هو علاج للنعمة المفاجئة الغير متوقع ؟ أي أن الصمت هو الفترة التي يشحن الشخص فيها فكره بطاقة لاستيعاب الأمر الواقع عليه -الجديد- حتى يستطيع تقبله والقناعة به، ثم تتكون عنده طاقة هائلة ليدافع عنه بكل ثقة لأنه أصبح جزء منه..........
وكان ردي لها كالتالي:
السلام عليكم غاليتي
سعدت جدا باستقبال مشاركتك، واسمحي لي أن اضيف تعليقك على الموقع ليعم النفع.
اما استفسارك فصعبة الاجابة عليه ويحتاج الى تفكير ومزيد تأمل. أما الخوف فأتوقع أن الصمت قد يضعف تاثيره أو وقعه، بدليل ان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا راينا رؤيا مزعجة ان نتفل على يسارنا ونتعوذ من الشيطان ولا نتكلم عنها فإنها لن تضرنا بإذن الله
أما النعمة فصراحة لست ادري، لكن قد تدل آية سيدنا زكريا على الصمت، وفي نفس الوقت قوله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدث} قد يشير الى العكس، أو لعل المقصود أن هناك نعم يصلح لها الإخفاء، وأخرى يناسبها الإفشاء؟ أحتاج لمساعدتك في التامل..
لكن الذي اعرفه أن الصمت، هو نوم اللسان، فإذا كان نوم الجسد يحفظ طاقته الجسدية، فلا شك ان الصمت يحفظ طاقته الذهنية والانتاجية
مع التنبيه الى انها ليست دعوة للصمت والكتمان المطلق، كما أنها لم تكن دعوة للنوم طوال النهار.. فالله جعل الليل لباسا والنهار معاشا، واعطى اللسان لذكره وشكره وللاستعانة بالأحباب في الاستشارة والفضفضة اذا احتاج الامر. وقد أمر نبيه وهو الذي يأتيه الوحي الحق من الله وليس بحاجة لسوى اختيار الله، مع هذا فالله تعالى أمره ليشرع لأمته، فقال له:{وشاورهم في الأمر}ولم يقل له واكتم عنهم الأمر
.فالسر في ديننا هو دوما في الاعتدال والتوسط، وهو في الحقيقة أصعب من التطرف، لذا قل أن نجده في الناس.. فالتطرف الى الانفلات الزائد او التحفظ الزائد أهون على النفس لأن كلاهما انفراط في حبل السيطرة.. اما التوسط فهو محاسبة دائمة، ومراقبة متواصلة وبين شد وحذب متعب
اللهم انا نسالك التوسط والاعتدال في شأننا كله على الوجه الذي يرضيك عنا
وفقك الله أخيتي وجزاك كل الخير
ولا تحرمينا من مشاركتك، فقد فتحت لي باب تفكر
مها
إرسال تعليق