جزاها الله خيرا. سوف نعرضها على الموقع على هيئة حلقات نظرا لطولها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فما سأكتبه الآن إنما هو حصيلة فكرية تراكمت في ذهني من كتب ومقالات
متعددة، أحببت أن أهذبها، وأنسق بينها، مستعينة بالله تعالى، وسائلة إياه
أن يجنبني الخطأ، و يعيذني من أن أضل، أو أضل، أو أزل، أو أزل.
تعريف مجمل للثقافة:
الثقافة في اللغة: من ثَقُفَ الرجلُ ثقافة أي صار حاذِقاً خفيفاً.
وتطلق كلمة المثقف عرفا على الإنسان الذي يكون ذا مستوى عال في معرفة
مجالات العلوم المختلفة.
وأما الثقافة فهي المعلومات التي يحملها الإنسان، فكل ما يعرفه الإنسان
يسمى عرفا ثقافة، سواء كانت هذه المعرفة ذا قيمة، أم لا، فمثلا من كان
يعرف عدة لغات، يقال عنه: إنسان مثقف في اللغات، ومن كان مِهنيا بأي مهنة
يقال عنه هو مثقف فيها، فمن كان نجارا يقال: هو مثقف بالنجارة، أو حدادا،
يقال: هو مثقف في الحدادة، وهكذا في كل معرفة من المعارف البشرية.
فنستخلص من هذا أن الثقافة هي حياة الإنسان الفكرية، وأن الإنسان يكون
مثقفا بقدر ما يحمل من معلومات، سواء كانت عملية، أو فكرية، ثم تقيم
ثقافته وتوصف بكونها نافعة، أو ضارة، بعد معرفة نوعها، ومجالها.
فنستطيع أن نقول بعد هذا، بأن الثقافة مرادفة للمعرفة، وإنما اخترت كلمة
الثقافة؛ لأنها الكلمة التي تستخدم بين عامة الناس، ولكلمة المثقف عندهم
بريق، لا تحملها كلمة العالم.
استمداد الثقافة:
قال الله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم
السمع والأبصر والأفئدة لعلكم تشكرون} النحل: ٧٨ ، فالإنسان أول ما يصل
إلى الدنيا يكون خالي الذهن من أي معلومة، ويكون عقله كصحيفة بيضاء
خالية، لكنها متقبلة لاحتواء المعلومات، ثم يبدأ سيره في الحياة فيكتسب
المعلومات من هنا وهناك، معتمدا في ذلك على حواسه التي وهبه إياها الله
تعالى، وتنموا هذه الحواس بنموه.
وأولها وجودا السمع، فالإنسان يبدأ بالسمع وهو في بطن أمه، قبل أن يخرج
إلى الدنيا، ويتأثر بما يسمعه، ثم تليها حاسة البصر، فيبدأ يلتقط كل صورة
تقع عليها حاسته المبصرة، وتنطبع هذه الصور في قلبه، ثم تتلو هاتين
الحاستين باقي الحواس: اللمس، والشم، والذوق.
ولولا حواس الإنسان، لما استطاع أن يتواصل مع العالم الخارجي، ولبقي خالي
العلم عما في العالم الخارجي.
وإنما اقتصر في القرآن على ذكر السمع والبصر؛ لأنهما أجل الحواس، وأكثرها
تأثيرا على علم الإنسان، ولو فقدهما إنسان قبل التمييز، سقط عنه التكليف.
ومع هذا كله فإن الحواس لا تكفي لوحدها إفادة العلم، فهي لا تحكم على
شيء، وإنما هي واسطة بين العالم الخارجي، وداخل الإنسان، الذي يحتوي على
القلب، والعقل.
وأول ما تنقل الحواس المحسوسات إلى القلب معدن المشاعر، ثم إذا التفت
القلب إلى هذا الزائر، وأراد أن يفكر فيه، نقل هذه المهمة إلى العقل،
ليقوم العقل بالتفكير، ويعطيه أحكاما لهذه المحسوسات.
فمثلا أحيانا ينظر الإنسان إلى صورة خالي التفكير، فهذه الصورة انطبعت في
القلب، ولكن لم يعطها العقل أي حكم، ثم لو سئل فجأة عن لون هذه الصورة،
أو شكلها، بعد أن لبث وقتا ينظر إليها، لاحتاج إلى زمن فكري، يتمكن من
خلاله أن يرسل المحسوسات إلى الذهن من القلب الذي احتوى هذه الصورة،
ليخبره بالحكم، وربما احتاج للنظر إليها مرة أخرى، لا لأنها لم تنطبع في
قلبه، وإنما لأن القلب منشغل عنها بما لا يدع لها مجالا في القلب، فهي
تنتقل إلى مخلفات الذاكرة، دون أن تترك أثرها في القلب.
ولأن القلب معدن المشاعر، والأحاسيس، فإنه هو قائد الجسد، إذ أنه عندما
ينشغل بشعور معين، ربما يصل لحد أن يمتلئ منه، فيسيطر عليه هذا الشعور،
ويمنعه من التفكير بكل ما حوله، ويحصر تفكيره فيه.
فمن أحب إنسانا مثلا، رآه في كل شيء حوله، فيسمع كلاما ولا يفهم منه إلا
ما يمكن حمله على شيء يخص هذا الحبيب، ويرى صورا، فلا يلتفت إلا لما يشبه
شيئا يخص الحبيب، فهو ممتلئ القلب به، وكيف للقلب أن يأمر العقل بالتفكير
في شيء هو خال عنه.
فكيف دخل هذا الحب إلى القلب، وكيف سيطر عليه؟!
إنها الحواس بريد القلب..
ومن هنا نفهم لم أمرنا الله تعالى بغض البصر، وكف السمع، عن المحرمات،
ونهينا عن الفضول فيهما بالمباحات، لا لحرمتها، بل حرصا على صفاء القلوب،
وخلوه عن غير الحق.
من هنا نفهم قول الله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا
يبصرون بها، ولهم ءاذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعم بل هم أضل، أولئك
هم الغفلون} الأعراف: ١٧٩، فما منعهم من أن تفقه قلوبهم إلا امتلاؤها
بالباطل، حتى لم يبق فيها مكان للحق، {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
يكسبون}المطففين: ١٤
من هنا نعرف كيف كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يؤمنون لسماع آية، فما
كان ذاك إلا لأن هذه الآيات لامست شغاف قلوبهم، إذ وجدت لها مكانا، فلما
أحبوها تفكروا بها، وما أسرع ما ينكشف الحق للمتفكرين به.
فالحواس تنقل، والقلب يأمر، والعقل يحكم، ولما كان الآمر هو القلب، كان
هو المضغة التي إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله.
فالحواس مجرد وسائل، ثم يأتي دور القلب والعقل، فتتولد المشاعر،
والأفكار، وبعد هذا وذاك تظهر ثمرتهما بالعمل.
فمن الحس، والعقل، والقلب، تتكون ثقافة الإنسان، ومن خلال ثقافته تتحدد
شخصيته، فما شخصية الإنسان إلا (أفكار- مشاعر- أفعال).
فالأفكار نتاج العقل، والمشاعر نتاج القلب، والعمل ثمرتهما.
فمن توافق عقله وقلبه، استقام عمله، ومن اختلف عقله وقلبه، ظل تائها
متخبطا بينهما، أيتبع ما يمليه عليه عقله من أحكام، أم يتبع مشاعره؟!
ويبقى في تخبطه وصراعه، يرتقي حينا، ويهبط أحيانا، {واتل عليهم نبأ الذي
ءاتينه ءايتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطن فكان من الغاوين، ولو شئنا
لرفعنه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} الأعراف: ١٧٥ – ١٧٦
وبعد تكون ثقافة الفرد، وظهور شخصيته، تتكون ثقافة المجتمعات، ثم تتولد
العادات، والتقاليد التي تحكم المجتمعات.
ويعجب الآباء والأمهات من أبنائهم، كيف يتصرفون نفس التصرفات السيئة،
وكيف يمشون في طريق واحد من الانحراف والتمرد، لا يكاد يخالف الآخر الأول
منهم إلا بالزيادة عليه؟!
فيا للعجب من عجبهم، ولو علموا أن ما أفعال أبنائهم إلا نتاج ثقافتهم،
لزال عنهم العجب.
كيف نقول للجيل الجديد: اقتدي بالصحابة، وهو ما سمع بهم؟!
وكيف يقلد شيئا ما عرفه، ولو سمع به مرة في الأسبوع أو الشهر، فأي مكان
يجده له في قلبه الممتلئ بثقافة الانحراف؟!
{بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا على أمة، وإنا على ءاثرهم مهتدون}الزخرف:٢٢
فمخالفة الثقافة التي انبنت منها الشخصية أمر صعب في كل زمان ومكان.
وقلب الطفل الصغير هو الصحيفة البيضاء، ورقة امتحان الأهل الخالية، التي
يحاسبون على كل ما يكتبونه فيها؛ لأن ما سيدخلونه إلى قلوب أطفالهم هو
الذي سيتمكن في القلب، ويكبر معهم، ولذا كان الأذان أول ما يسن أن
يستمعوا إليه عند ظهورهم إلى الدنيا، لينطبع في قلوبهم نداء الحق.
وبعد أن يبلغ الطفل تسلم هذه الصحيفة إليه، ليبدأ هو بالكتابة فيها، بعد
أن كمل عقله، وصار مسؤولا عن أحكامه وأفعاله.
--
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق