مرت بنا البارحة مناسبة المولد النبوي الشريف، وكنت أقرأ في قصيدة البردة للبوصيري في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذ بي أقف عند المقطع الذي يروي المعجزات الكونية التي حدثت عند مولده صلى الله عليه وسلّم؛ فقد سقطت ليلة مولده أربعة عشر شرفة من إيوان كسرى، وهو الذي كان يسمى لسخرية القدر بالبيت الأبيض، وهو القصر الذي روى العجلوني أنه استغرق نيّف ومائة سنة في عمرانه، وظن أهله أن لن يقدر عليه إلا قيام الساعة! ثم انظفأت نار المجوس، والتي قيل أنها مكثت قبل ذلك ألف سنة لم تطفأ أبدا، وقد كان لها كهنة مخصصون لتزويدها بالحطب ليل نهار. وجفّت مياه بحيرة ساوة، وهي التي كانت من ضخامتها تسير فيها السفن وتتلاطمها الأمواج. وكذا ظهر من مكة نور أضاء قصور الروم في الشام، وتلألات السماء بالشهب التي كانت ترجم الجن حين أقبلوا على أبواب السماء لاستراق السمع حول ذلك الحدث العظيم...
جلست اتفكر في هذه الأحداث، ولم يخطر في ذهني أكثر من أنها إشارة على عالمية هذا الدين، وأنه جاء لينسخ ما قبله من أديان، ويجبّ ما قبله من معبودات.
ثم إني خرجت اليوم باكرا لأصطحب ابنتي إلى مخيم تشارك فيه، والطرق شبه خالية من البشر، مملوءة بالقاذورات والفضلات ومخلفات الاحتفال في الليلة السابقة بالعيد الوطني، وإذ بعمال النظافة يسعون حثيثا لإعادة التوازن البيئي للمدينة. ثم التفتت فإذا بشاحنات التنظيف الضخمة تشارك في المجهود، حيث فاق التلوث قدرة البشر على الإزالة.
جلست أتأمل في هذا المنظر، ثم خطرت لي تلك الابيات التي كنت أقرأها في معجزات مولده صلى الله عليه وسلّم، فرأت نفسي معنى لم يكن قد خطر لها من قبل، وهو في الغالب مجرد حديث نفس، لكن لعل عظمة مولده صلى الله عليه وسلم في عظمتها تتسع لهذا المعنى ولأكثر منه.
قلت: إننا في هذه الأيام نتداول ثورة جديدة في علم فيزياء الكميّة وهي ما يسمى بقانون الجذب، في أثر الأفكار الإيجابية والسلبية على الأحداث الكونية. ثم تذكرت أحد كتب المؤلف الأمريكي "دان براون" والذي يذكر فيه علم يزيد من اضطرام تلك الثورة، وهو ما يسمى بNoetic Science أو إن اردت ترجمته قلت: "العلم الإدراكي"، والذي يبحث في أثر المشاعر الروحية والنفسية والإدراكية للبشر على الأحداث الكونية!
ثم تذكرت قوله تعالى في سيدنا إبراهيم: {إن إبراهيم كان أمة} وقوله صلى الله عليه وسلّم في سيدنا أبي بكر الصديق أنه لو وضع إيمانه في كفة ميزان، ووضع إيمان أمة محمد كلها في الكفة الأخرى لرجحت كفة سيدنا أبي بكر رضى الله عنه!
فقلت: يا لله! هناك من البشر من هم بوزن أمة، ثم هناك سيدنا محمد من يملك لحظة ولادته من عِظَم الطاقة الإيجابية الكونية لدرجة أن لحظة ولادته هزت رموز الطاقة السلبية الكونية في زمانه، وهي قصور فارس والشام، بل والجن في السماء!!
ولعل هذا ما يفسّر كون قرنه صلى الله عليه وسلم هو خير القرون، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه الخ، نتيجة تناقص وتباعد طاقته صلى الله عليه وسلم الإيجابية في الكون وطاقة أصحابه بعد وفاتهم..
وإذا كانت الطاقة الإيجابية للأفكار، والخواطر والأعمال والبشر لها ذلك التأثير الإيجابي في الكون، كذلك لا بد ان يكون للبشر والأعمال والخواطر السلبية نوع من الطاقة السلبية والتي تعمل على تلويث الكون روحيا؟!!
فيأتي الاستغفار المتواصل والحثيث للملائكة، في محاولة دؤبة مخلصة لتنظيف الكون من آثار تلويثنا المتكرر له، خدمة لنا بني البشر، وامتثالا لأمر الرب الرؤوف الرحيم بنا...
إلا أن التلوث أحيانا قد يفوق طاقتة الملائكة في محوه، فتأتي التدخلات الربّانية في ما نعتبره نحن لقصور نظرنا أنه كوارث كونية أو إنسانية، مما لعله في حقيقته وسائل ربانية للتعقيم والتطهير الروحي للكون!
فقلت في نفسي: إن كان الأمر كذلك فإننا بحاجة إلى تضافر الجهود في سبيل الحفاظ على نظافة بيئتنا الروحية كما نسعى للحفاظ على بيئتنا المادية... فنحاول أن نشارك ونساهم ونتضافر مع جهود الملائكة في مسح آثارنا السلبية من أفعال، وخواطر، وذلك بتكثيف حملات الاستغفار لأنفسنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وفي نفس الوقت الكف والحد- قدر المستطاع- من إلقاء المزيد من أعمالنا نحن وخواطرنا الملوثة، امتثالا لحديثه صلى الله عليه وسلّم حيث قال: (ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم!) فالحد من التلويث أول خطوات التنظيف!
هي دعوة مخلصة مني بالاحتفال بذكرى مولد نبيّنا صلى الله عليه وسلم، سيّد البشر، والماحي لسلبيّات الكون، بالحفاظ على سلامة بيئتنا الروحية، امتثالا لأمر الله تعالى، واتقاءا لحملات من التطهير قد لا نقوى على احتمالها.
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق