نظرا لانشغالي بأولويات حياتي، ورغبتي في التفرغ للأهم منها، فإني أعتذر عن الاستمرار في الكتابة في المدونة، شاكرة كل من ساهم وشارك وقرأ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الجمعة

تعليق وجواب

وصلني من أحد المتابعين للمدونة بإسم: Happy تعليق يحوي سؤال، فلما جلست لكتابة الرد وجدته طال حتى خرج عن نطاق أن يستوعبه مربع الرد المعتاد، فرأيت أن أنشر السؤال والجواب في مقال مستقل، والله الموفق.

السؤال: الى مها
جزاك الله خير على هذه الخاطرة الرائعة ولكن عندي سؤال إذاممكن..
كيف ممكن للإنسان منا في هذه الأيام المليئة بالمغريات والملهيات أن يصل إلى التخلية و انقلاب القلب إنقلاب كامل تجاه ذكر الله تعالى.

***********

الرد: الى happy
جزاك الله خيرا على مشاركتك. أما سؤالك فأسهل سؤال وجوابه أصعب جواب!
الذي استطيع أن اقوله هو الآتي:
من أفضل من كتب في هذا الموضوع هو
الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، وإن كان قد كتب الكثير من السابقين له في الزهد كذلك.
أبرز ما يقوله الإمام الغزالي هو أن الإنسان لن يصل إلى السعادة حتى يصل إلى حقيقة كل شيء، ولن يتمكن من معرفة الحقيقة حتى يتحقق بمعرفة أربعة أمور: أن يعرف نفسه، ويعرف ربه، ويعرف الدنيا، ويعرف الآخرة.

١- فيعرف
نفسه وما هي على حقيقتها، وليس فقط من حيث ظاهرها وشكلها وحاجاتها المادية. ومن أجل أن يتمكن من النظر بدقة إلى حقيقتها وباطنها فلا بد له من أن يصرف النظر عن الانشغال المستمر بذلك الظاهر. وهذا أمر بديهي في جميع أمورنا الحياتية، فلن يوفق طالب في الدراسة - مثلا- ما لم يصرف نفسه عن اللهو إلى كتبه. وكل أمر في بدايته عسير وثقيل، لأنه مخالف لاعتياالنفس، حتى إذا ذاق الإنسان لذته حلا للقلب وهان على النفس
وقد قال البوصيري رحمه الله في البردة:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عرف نفسه عرف ربه) فمعرفة النفس طريق معرفة الرب.

٢- ثم يبذل من الوقت ليتعرف على
ربه من خلال ماعرف عن نفسه، فيتأمل في صفاته تعالى وعظمته، في مقابل ضعفه هو البشري وعجزه وحاجته. فلو تأمل في روحه مثلا وحقيقة أنها لا توصف بالكم ولا بالكيف، ولا باللون ولا بالطعم، ولا بالزمان ولا بالمكان، كانت تلك إشارة من الله تعالى له ليفهم حقيقة معنى قوله تعالى: «ليس كمثله شيءٓ» وكذا إذا تأمل في جمال الصفات الجميلة كالكرم والعفو الإحسان، في مقياسها البشري، اعانه ذلك على فهم الكمال الجمالي لله تعالى فازداد له محبه وبه تعلقا. وإذا تأمل في صفات القوة والألم في مقياسها البشري عرف جلال الل فهابه وخشاه. وهكذا من خلال تأمله في نفسه عرف ربه. ولن يتمكن من ذلك كله قلب انشغل بالسوى، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

٣- وحتى تكتمل معرفته لا بد من النظر والتأمل في الحال والمآل، وهما
الدنيا والآخرة، فيجري المقارنة بينهما، ويختار.. إذا أن الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان، ولا مفر له من تقديم أحداهما على الأخرى. فليقارن بينهما من حيث الفناء، والبقاء، ومن حيث النعيم والشقاء، فيختار. فمن خلال معرفته لنفسه، عرف ربه، ولما عرف ربه عرف أن ربه قد أعطاه ذلك الجسد ليمتطيه كما يمتطي الحاج الدابة ليذهب بها في حجه إلى الله، فواجبه أن يوجه قلبه إلى ما ينتظره من لقاء مع الله في بيته، لا أن ينسى نفسه ويلهى بدابته في علفها وتزيينها وتجهيزها حتى يتأخر عن الركب والقافلة ويفوته الحج!!

٤- فإذا عرف ذلك كله الواحد منا، فقد حصل لديه
الإدراك العقلي، وبقي عليه أن ينمي في نفسه التفاعل العاطفي الذي من شأنه أن يهيج النفس إلى السير، كما يهيج الحادي البعير في السفر. ومما ينمي هذه المشاعر والعواطف الدعاء، وإدامة النظر في سير الصالحين والسابقين، حتى يرق القلب ويتهيج نحو المحبوب، فيهون في سبيله الصعب.

٥- وقد يظن الواحد منا أن موضوع الزهد والتقلل من الدنيا، والماديات أمر ديني بحت، لا ينظر فيه إلا المتدينون، والعكس هو الحقيقة، فالعصر المادي الحالي قد تسبب في زحمة فكرية وفوضى نفسية عارمة في نفوس الغرب حتى خرجت حركات قوية جدا في الساحة النفسية والاجتماعية الحالية تدعو إلى التقلل من المادة، والتبسيط في الحياة في سبيل التوصل إلى الهدوء النفسي المفقود. وهم، وإن كانوا لا يسمونها باسم الزهد، إلا أنهم يعطونها اسماء متعددة مثل: Simplify, Zen, Creating space, Feng Shui وغيرها من المسميات. وقد تابعت الكثير من تلك المواقع والحركات واستفدت منها الكثير في سبيل تشجيع نفسي، وترغيبها في التقليل من أحمالها المادية، وتعلقاتها الدنيوية، فالحكمة ضالة المؤمن، والاستعانة بالعلم النفسي الحديث من شأنه أن يعيننا على فهم أحاديث وأقوال كنا نسمعها فنمر عليها دون إدراك أو التفات.

وأنا أدعوك للرجوع إلى بعض الكتابات السابقة في مدونتي حول موضوع الزهد، وتعامل السلف مع الدنيا، كما أدعوك لمتابعة ما سوف تأتي به الأيام من الكتابات، آملة أن يوفقني الله تعالى إلى عرض الموضوع بالصورة التي تتلائم وعقلياتنا الحديثة، بعد ان تكدرت الفطرة، وصارت بحاجة لأدوية مركزة أكثر لتجلو وتصفو.

اللهم إني اسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، أن تفرّغ قلبي من سواك، ومن كل شيء تكرهه، وأن تحشو قلبي بمحبتك، ومعرفتك، وخشيتك، ورهبتك، والرغبة فيما عند، والأمن والعافية...آمين.


هناك تعليقان (2):

Happy Face يقول...

إلى الإخت مها..
أولا: جزاك الله خير لردك على لسؤالي.
وثانيا: جزاك الله خير مره اخرى على الإجابة، فهي إنشاءالله إجابة وافية. بحثت عن الكتاب المذكور للشيخ الغزالي رحمه الله – إحياء العلوم – و وجدت ما ذكرتي عن الزهد في الجزء الرابع الفقر والزهد.
ثالثا: جزاك الله خير مره ثالثة على الكتب المعروضة في المدونة - وهل من الممكن وضع كتب دينية بالإضافة إلى هذه الكتب حتى تعم الفائدة لي و لجميع من يتصفح هذه المدونة.
أسأل الله العظيم أن يبارك لك في علمك و ينفعك بما علمك و يزيدك علما. و أن لا يحرمنا منه :)
Happy Face

M يقول...

جزاج الله كل خير.