نظرا لانشغالي بأولويات حياتي، ورغبتي في التفرغ للأهم منها، فإني أعتذر عن الاستمرار في الكتابة في المدونة، شاكرة كل من ساهم وشارك وقرأ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاثنين

ليس منا من لم يوقر كبيرنا

رابط المقالة في جريدة القبس
 
لست ممن تفهم في السياسة، بل ولا ممن يطيقها، لكني ممن ادرك اثرها في هيكلنا الاجتماعي وفي تآكل دعائمه، فلا نكاد نفتح اعيننا على وسيلة من وسائل اعلامنا الا ونشهد المعارك والتناحر والتداحر بين افراد المجتمع الواحد، وكأن الكل صار صاحب الحق ولم يبق بيننا من عليه ادنى حق!
تأملت في الامر فوجدت اساسه مبنياً على سوء الفهم لفكرة «التفاوت» في المجتمع، وما يتبع سوء الفهم من سوء في التعامل مع هذا التفاوت وسوء استغلال له، فأحببت ان اطرح رأيي في فن العلاقة الناجحة بين افراد المجتمع ضمن هذا التفاوت المحتوم، مستعينة بما حضر في ذهني من نصوص شرعية وفق محدوديتي في الاحاطة والاستيعاب.
ابدأ بالاشارة الى قوله عز وجل في كتابه الكريم:
«ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض».
وقوله تعالى: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً ورحمة ربك خير مما يجْمعون».
من تأمل في هذا الكون وجد ان الله تعالى قد جعل الحياة فيه – بكل اشكالها وشؤونها ــ مبنية على مبدأ «التفاوت».. فأوجد الجبال ومعها الوديان والسهول، وأوجد الأُسود والغزلان، الرئيس والمرؤوس، الاب والابن، وهكذا..
ولولا وجود الادنى لفني الاعلى، فلولا الوديان ما برزت الجبال، ولولا الغزلان لماتت الاسود، وكما يقال في أمثالنا الشعبية: «اذا كنت انا امير وأنت امير، فمن يسوق الحمير؟» لا ينبغي ان نفهم هذه الحكمة بالفهم القاصر على انه استهانة بسائق الحمير، بل هو على العكس بيان لأهمية دوره في بقاء امارة الامير! اذ لا قيام للمجتمعات الا بوجود هذا التفاوت. اذاً ليس الغرض من التفاوت ظهور التفاضل.. وانما الغرض منه حصول التكامل، ومن فهم الغرض غير ذلك، فذلك لقصور في بصيرته.
اما الفن في تحقيق المجتمع المتوازن المستقر ضمن هذه العلاقة المحتومة، فالذي اراه انه يلخص في قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يوقر الكبير (سنا او قدرا)، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر».
لا اشكال عند الامير في كونه اميرا، ولا عند الاسد انه الاسد، انما المشكلة تكمن عند الغزال كونه المأكول، وعند المأمور كونه المطلوب للطاعة، أي المشكلة عند الادنى كونه الطرف الادنى.. وهي فعلا مشكلة، وما كنت لأرضى بها لنفسي في اي جانب من جوانب الحياة لولا قضية جوهرية ادين بها، الا وهي ايماني بالآخرة وبالعدالة الاخروية، حيث يقيني باليوم الذي يقتص الله تعالى للظالم من المظلوم، وللشاة الجلحاء من الشاة القرناء.. وحيث يُظل الله تعالى المجتمع الواحد، وظهر التفسير المشوه له على انه ظاهرة اجتماعية «مرضية»، وبرزت التخبطات في ايجاد الحلول.. ما بين مطالب باشتراكية او شيوعية، ومناد برأسمالية «البقاء للأفضل»، ومفاخر بملكية او اقطاعية، فانتشرت في مجتمعاتنا ظاهرة «الطلاق».. ليس بين الزوجين فحسب، بل ظاهرة «الطلاق الاجتماعي» بين فئات المجتمع الواحد، لتركيز نظر كل من افراده لما له دون ما عليه، واعجاب كل ذي رأي برأيه، فكلّ يرى الحق والسلامة في رأيه هو وفريقه من دون سواه، حتى بات كل منا يلتفت الى الجزء من هويته الذي يفصله عن بقية افراد مجتمعه لا في الذي يجمعه بهم! ومن نتائج ذلك ضياع هيبة ومقام ولي الامر اوالمسؤول من أب او معلم، بل حتى رجل الأمن فقد هيبته وصار يتعرض للضرب على يد ثلة من الشباب!

لقد اعترف ديننا بالتفاوت، بل واقره، بشرط اداء حقه، فليس احب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانصار، أهل المدينة الذين آووه ونصروه، الا انه قال: «الأئمة من قريش، ان لي عليكم حقا، ولهم عليكم حقا مثل ذلك، ما ان استرحموا رحموا، وان عاهدوا وفوا، وان حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
وأكد الحاجة إلى وجود الراعي والرعية ثم قال: «ما من امير عشرة الا يؤتى به يوم القيامة مغلولا، لا يفكه من ذلك الغل الا العدل».
فان لم يتمثل الكبير، من امير او والد او زوج او مسؤول، واجبه في العدل والرحمة، نقول ما قاله الانصار في بيعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم: «اخذ علينا العهد صلى الله عليه وسلم ان لا ننازع الامر اهله» فنطالب بحقنا من المسؤول، نصحا منا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ونقول كلمة الحق، بأدبها، ولو عند سلطان جائر، ثم نؤدي ما علينا من الحقوق، انفاذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلّم في قوله: «لا تكونوا إمعة، ان احسن الناس أحسنتم وان اساؤوا اسأتم، ولكن وطّنوا أنفسكم (أي عوّدوا أنفسكم)، ان احسن الناس احسنتم، وان اساؤوا ان تحسنوا!» وبعد ذلك كله متحلين باليقين بأن كلّ راع مسؤول عن رعيته، ومحاسب على دائرة مسؤوليته «ان الله سائل كل راع عما استرعاه حفظه ام ضيّعه».
ان هذا الخلل والتمرد الاجتماعي الذي نشهده اليوم هو مما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة التي تتزايد وتتكامل الى ان تتصل بعلاماتها الكبرى، فان ما ذكره لنا من تلك العلامات: كثرة الامراء، وقلة الامناء، وان يسود كل قبيلة منافقوها وكل سوق فجّارها، وتكون امارة الصبيان وجور السلطان، وان تلد الأمة ربتها، وان تحزن ذوات الاولاد وتفرح العواقر لكثرة العقوق، وأن لا يُرحم الصغير ولا يُوقّر الكبير، وان نرى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، واعجاب كل ذي رأي برأيه، وان تبدو الشحناء بين الناس.
وليس أمامنا، راعياً ورعيّة، في ظل ذلك كله سوى ان يجعل كل منا نصب عينيه أداء ما عليه من حقوق، أدبية كانت او مادية.. متمثلاً في نفسه اولا واخيرا قانون: «ليس منا من لم يوقر الكبير، ولم يرحم الصغير».
قد يقول قائل: اني اطرح مثاليات، وأقول: كلا، لست أتكلم في مثاليات، وانما هي مُثل، أتمنى ان نربي اجيالنا عليها ونغرسها فيهم تماما، كما ينبغي ان نغرس فيهم حب الوطن واحترام القانون.


--

[مدونة تأملات] tasbeeh33.blogspot.com

هناك تعليق واحد:

اقصوصه يقول...

جزيت خيرا على الطرح المفي :)